..... كان قدّها يدعوني بشدة لمسكها وتأمّلها ومداعبتها....... ما ذلك الريش الناعم ، واللون الناصع؟ سبحان الله! إنها تسحر الألباب... تتمايل ..... تناجي نسائم الصباح.... كأنها رسالة تدعو المحبين للودِّ والوئام... يا لها من غواية شديدة إلى درجة أنّي لم استطع كبح جماح رغبتي في احتضانها.... فبسطت يدي على جسمها الرشيق... وما كدتْ أمسها حتى سمعتُ صوتًا خافتًا قادمًا من بعيد... إنّه صاحب تلك الضيعة :
-دع تلك الحمامة وشأنها.....دع تلك الحمامة وشأنها.........
ولكنّي تجاهلته من منطلق أن فعلي هذا لا يجلب المضرَّة لأحد... فمددتُ يدي ومسكتها... أخذ الصوت يدنو منِّي رويدا رويدا حاملاً في ثناياه بُحَّة غريبة: اتركها ... اتركها... فهرولت بدون وعيٍّ وبأقصى سرعة..... وبعد لحظات كانت منبهات السيارات تصكّ مَسمعي، تأكدتُ أنّها تطاردني، أسرعتُ خطاي فارّا.... تسللت انعطفتُ...ذات اليمين و ذات اليسار ؛ لأشتّت الأنظار المصوَّبة تجاهي بدقّة متناهية... تواريت بين جدران أحد الشوارع...ولم أجد مخرجا ، إذ جميع الاتجاهات تبدو مسدودة أمامي.... ووجدتُ نفسي وحيدًا... وكأن المطاردين يئسوا أو ربما تاهوا في دوامة ذلك الشارع العجيب.... شكرتُ الرحمان.... وقعدتُ ألتقط أنفاسي المتقطعة.. متمعّنا فيما صنعت يداي...! إن الحمامة البيضاء بدأت تجوع و تعطش، وما بيدي حيلة ،لا زادا لديّ و لا ريّا...لا أستطيع أن أفعل لها شيئًا،... ما العمل؟!... هل أترك الأمن والاطمئنان يموتان هكذا و أنا مكتوف اليدين؟!!
ولكن.... ماذا في وسعي أن أفعل الآن؟... فأنا مُطارد من طرف الجميع... و الجرم الذي اقترفته حدث الساعة وحديث الشارع.. الكُلّ يترقَّب حضوري بفارغ الصبر... الكلّ يأمل أن يحوز قصب السبق في إلقاء القبض عليّ، عساه يفوز بتلك المكافأة المعتبرة التي خصّصها صاحب الضيعة.. الكلّ يتلهّف للبحث عني ويغدو ويروح كأنّ به مسًّا من الجن و الجنون... أكادُ أجزم بوجود خللٍ ما، يحرّك عواطف القوم ويتلاعب بمشاعرهم... يقنعهم بإدانتي..وأإنا البريء براءة الذئب من دم يوسف... يجب أن يعلم الجميع أني لم ارتكب ذنبا... فما قمت به قام به أسلافي قبلي،لقد كانوا مغرمين بتربية الحمام الأبيض ولم يتهمهم أحد،بل هنّأهم الجميع على صنيعهم، فَلمَ الآن قامت الدنيا ولم تقعد........؟
بقيتُ مُطاردًا عدة شهور.... وفي يومٍ فاجأني مجموعة من الرجال المسلحين يصِّوبون سلاحهم نحوي.... أطلقوا عدة عيارات نارية.... شعرتُ بأشلاء جثّتي تتناثر من حولي.... وتسرّبت إلى أنفي رائحة الدّم مختلطة برائحةِ الحمام.... آه...... لقد خارت قواي.... وهويتُ على ركبتي.. ألقيتُ نظرة شاحبة على الحمامة البيضاء ،فوجدتها مرتعشة في يدي، التي ما تزال تمسك بها على الرغم من هول الواقعة.... ثم أدرتُ نظري صوب الرجال المسلحين......
وبغتة، تناهى إلى مسمعيّ صوت أذان الفجر.... فشعرتُ بنوع من البهجة...وما إنْ فَتَّحتُ عينيَّ الغارقتين في سباتٍ عميق حتى وجدتُ نفسي مُلقى من على السّرير ... وألفيتُ والدتي تدعوني لتناول وجبة فطور الصباح........... .